وجع البيوت.. تهويدة السَند


قصص حقيقية نحتفظ باسم أصحابها.. تنشر بالاتفاق مع نجلاء عياد مؤسسة مبادرة «بداية جديدة لتأهيل المطلقات»

منذ صغرى وتتردد فى منزلنا بقريتنا تهويدة كانت تغنيها جدتى لأخى الصغير تهويدة مفاد كلماتها عن ولادة الذكر أنه هو السند والعوض.. كنت أرى كل الاهتمام فقط بأخى لأنه جاء بعد ثلاث بنات.

تزوجت بعد أن أتممت ١٥ عاما وسافرت مع زوجى من قريتنا بالشرقية إلى القاهرة، هو صاحب ورشة (ذهب)، وأنجبت منه ٧ بنات وفى كل مرة كنت أبكى عندما أعلم أننى رزقت بمولودة أنثى لعلمى الشديد أن زوجى يتمنى أن يرزقنا الله بمولود ذكر لكى يحمل اسمه وكان دائم اللوم لى بأنى لا أنجب له سوى البنات.. كنت أعيش فى رعب دائم خوفا من أن يتزوج بأخرى حتى تنجب له الولد.. وأصبح يتعامل معى ومع بناته بقسوة شديدة وصلت إلى مرحلة الضرب المبرح لى..وحرمانى أنا والبنات من طلباتنا.

كنت أتذكر بداية زواجى منه، كنت مدللة منه وكان كل من حولنا من الأقارب يحسدنا على حياتنا وعلى حبه لى ولكن كل ذلك تبدل.. أصبحت حاملًا للمرة الثامنة طوال فترة الحمل وأنا أرى كابوسًا متكررًا، صراخ زوجى وهو يحمل بين يديه مولودة أنثى.. فاجأتنى الطبيبة وأنا فى الشهر الرابع بأننى حامل فى توأمين.. وجاء اليوم الموعود للولادة ورزقنا الله بصبيين.

أقام زوجى لهما ليلة ولا ألف ليلة وليلة.. وبرغم تحقيق أمنيته إلا أن الحال بينه وبين البنات أصبح للأسوأ.. فعندما بلغت ابنتى الكبرى ١٥ عامًا كان اختار لها أن تتزوج وكانت رافضة فكرة الزواج ورغم ذلك كانت كلمته هو فوق أى كلمة..أصبحت هى وأخواتها يكرهن والدهن وتحول الكره أيضًا لأخواتهن الصغيرات اللاتى كنّ متأكدات أن حب والدهن للذكور سبب تعاستهن.

وكان للقدر رأى آخر أصيب زوجى بجلطة دماغية وأصبح طريح الفراش دون حركة ووجدت أننى أصبحت المسئولة عن مراعاة زوجى وشئون المنزل وورشة الذهب التى لم أكن أعلم أى شيء فى إدارتها لولا أحد العاملين وكما كان يقول عنه زوجى إنه ذراعه اليمنى، حيث ساعدنى فى معرفة بعض الأمور وكنت آتمنه على الورشة.

كنت أرى قسوة القلب لخمس من بناتى تجاه والدهن وتشفيًا وشماتة بمرضه، ومهما حاولت معهن وتذكيرهن بأنه يحتاج الآن إليهن وربما أراد ابتلاءه بذلك ليعلمه درسا وعليهن أن يكنّ بارات به، ولكن للأسف كانت قسوتهن تمتد لى، كنّ دائما ينعتننى بأنى كنت ضعيفة أمامه ولم أكن أستطيع أن أحميهن من قسوته عليهن وأننى كنت ذليلة له وللخوف من عدم إنجاب صبى، وقالت لى إحداهن لماذا وافقتِ على الاستمرار فى الإنجاب والعيش معه وأن الانفصال منه كان أكرم لى وللمحافظة على نفسيتهن؟.. أخبرتها أن استمرارى معه كان سببه هى وأخواتها إذا انفصلت عنه…فأين كنت سأذهب بهن.. من سيفتح لنا باب منزله بأم وسبع بنات؟.اضطررت إلى تحمل كل شيء بسببهن.. والآن أنا أتحمل أيضا كل شيء دون أى سند حفاظا على ذلك المنزل وعليهن.

لم يكن من الهين أن أرى زوجى وهو طريح الفراش دون حركة، واستعاد الله أمانته وتوفى تاركًا لى ٧ بنات وولدين صغيرين..كنا ولله الحمد فى ستر من الله ترك زوجى لنا إرثًا كبيرًا.. كان الله بى رحيما فى أصغر اثنتين من بناتى، كان بقلوبهما رحمة لى ولأخويهما الصغيرين تحملتا معى مراعاتهما فى أثناء تواجدى بالورشة..أما الأخريات ففضلن الزواج مبكرا دون تكملة تعليم، وكل واحدة منهن كنت أرى جبروتًا داخلها، رغم صغر سنهن كنت أراهن يفرضن السيطرة على أزواجهن وكأنه انتقام داخلى من والدهن حتى إن إحداهن كنت أنصحها بأن تتعامل مع زوجها برفق ولين قالت لى إنها لن تكون صورة منى أبدا ولن تسمح لى بالتدخل فى حياتها حتى ولو بالنصح، كل هذا الكره تحمله لى طوال سنوات ولم ترحمنى.

مرت السنوات وكبر الأبناء وأنا أيضا أصبحت المقاطعة مع بناتى الخمس.. سنوات وسنوات لم تشفع توسلات الأختين لديهن بأن صلة الرحم واجبة وأنى كنت أتمنى فى كل عيد ومناسبة تواجدهن بيننا حرمت أيضا من رؤية أحفادى..حتى إن أزواجهن كانوا يحرضونهن على مطالبتهن بالميراث معتقدين أننى سأخالف شرع الله ويكون للولدين أحقية.

ورغم أننى بالفعل قسمت الميراث وأخذت كل واحدة منهن حقها إلا أن قلوبهن كانت أشد من الحجارة.. وأصبح معاملتهن لباقى أخواتهن ولأخويهما منتهى الكره لمجرد أنهن يعلمن أنهما باران بى… وبعد سنوات تم طلاق إحدى بناتى بعد أن أخذ منها زوجها نصيبها من مالها بحجة إدارته مشروعًا خاصًا به، واكتشفت أنه بدد المال على نزواته، لم يكن لها مكان تذهب إليه بعد أن طردها بأبنائها، وجاءت لى تبكى بحرقة وكنت أبكى معها على حالها وحال أولادها وأخبرتها أن بيت والدها مفتوح لها ولن أتخلى عنهم.

وبعدها مرضت ابنتى الكبرى بمرض السرطان ولم يطل مرضها فقد توفيت، وقبل وفاتها طلبت مسامحتى لها وكنت أذهب إليها وأجلس خارج غرفتها وأبكى عليها، كنت ممنوعة من الدخول بسبب جلسات الإشعاع، وكان أولادها يحتضنوننى ويبكون من أجل والدتهم ومن أجل حرمانهم منى.. وبعد وفاتها بدأ أحفادى فى زيارتى.. أما الولدان فأحدهما محام والآخر مدرس لغة عربية.

وإلى الآن دعائى لهم جميعا بالخير حتى بناتى اللاتى لم أرهن منذ سنوات فإننى على يقين بأن الله سينزع الغشاوة يومًا ما عن أعينهن وقلوبهن ولا أريد أن يتوفانى الله وبداخلى غضب عليهن..فأنا أراهن بقلبى ضحايا لما مررن به من ذكريات مؤلمة مع والدهن رحمة الله عليه.