Site icon الصبح نيوز

100 عام فتحي غانم .. رواية “الجبل” إشكالات فنية وفكرية تكشف أهمية التراث المصري الفرعوني

100 عام فتحي غانم ..  بين لغة الأدب والصحافة ورصد الواقع يسبح الأديب الكبير فتحى غانم، المولود في القاهرة في 24 مارس 1924، برشاقة مفعمة بالعاطفة والخيال، فى الحالة الاجتماعية للبيئة العمرانية، فى إحدى عواصم مصر التاريخية “الاقصر” عبر روايته “الجبل” كاشفاً عن التأثير المدمر الذي يمكن أن تحدثه القرارات العمرانية في المجتمع، وأن بناء مساكن جديدة للناس لا يعني أبداً أننا سنحقق لهم السعادة، والرفاهية.

الأديب الكبير فتحى غانم

فما أن تطالع “الجبل” تجدها تقتحم عدداً من القضايا المتعلقة بالفن الروائي وعلاقته ببعض ضروب الكتابة الأخرى، إذ تدور  أحداثها حول قصة حقيقية، حيث كان فتحي غانم يعمل مفتشاً بوزارة المعارف، وسافر إلى قرية “القرنة” في الأقصر، للتحقيق في أسباب امتناع أهالي الجبل عن تنفيذ أوامر الدولة والنزول من الجبل، إلى القرية النموذجية التي أعدتها لهم، وكان الأهالي يرفضون السكن في القرية النموذجية الجديدة، التي جهزتها لهم الحكومة، لأن عملهم مرتبط بالحفر داخل الجبل، واستخراج الكنوز والآثار القديمة.

وأحداث هذه الرواية، تعرف القارئ بمقاومة سكان الجبل لفكرة التخلي عن حياتهم الجبلية، والنزول للسكن في القرية النموذجية، تبعاً للقرارات العمرانية في المجتمع المصري آنذاك.

وعبر كاتب هذه الرؤية على لسان البسطاء أن لهم رؤية أخرى فى المسكن غير التى يراها المسؤولون كاشفاً عن أن  أهل الجبل أصروا على أن يعيشوا كما يريدون هم.

جمال الرواية دفع الكثيرين إلى قراءتها واقتناىٔها، وأجرت كلية اللغة العربية بإيتاي البارود دراسة عنها،  وفى أكتوير 2022 نشرت مجلة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود في العدد الـ35 الإصدار الثاني، دراسة عن الدلالات الحضارية والنفسية للمكان في رواية “الجبل” لفتحي غانم، أعدها الدكتور “سامى ما جيه” دكتوراه في الأدب العربي، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، إذ تقول مقدمة الدارسة:
تقوم أحداث رواية “الجبل” لفتحي غانم في فضاء قرية صغيرة “القرنة” في البر الغربي لمدينة الأقصر في صعيد مصر، وتعرض الرواية موقف أهل الجبل، ومقاومتهم لفكرة التخلي عن حياتهم الجبلية والنزول للسكن في القرية النموذجية تبعاً للقرارات العمرانية في المجتمع المصري زمن الرواية، وتربط الرواية بين رفض الأهالي للقرية النموذجية الجديدة، وموقفهم الرافض للتمدن والحضارة، كما تعرض الرواية كثيراً من الدلالات النفسية الداخلية للشخصيات، والإيحاءات الشعورية المرتبطة بالمكان/ الجبل، وبالإضاقة إلى ذلك.

وتتبع هذه الدراسة المنهجين التاريخي والاجتماعي في دراسة الأحداث، والمنهج النفسي في دراسة الشخصيات، وكذلك الاستعانة بالمنهج الفني في دراسة التقنيات الفنية، وقد توصلت الدراسة لعدة نتائج من أهمها: يشكل عنصر المكان في هذه الرواية بؤرة الارتكاز في العمل الروائي، والمحور الأساس الذي تدور حوله أحداث الرواية، يمثل الجبل/المكان لدى الأهالي: الرزق، وعلى ذلك فقد كان الارتباط الشديد بالمكان، ولذلك كانت مقاومة سكان الجبل لفكرة التخلي عن حياتهم الجبلية.
ألقت الرواية الضوء على الأوضاع الاجتماعية، والأحوال الحضارية لأهالي صعيد مصر زمن الرواية، كشفت الرواية عن أهمية التراث المصري الفرعوني، والدفائن الموجودة في جنوب مصر، عرضت الرواية الأبعاد النفسية لشخصية المصري الصعيدي، كما أبرزت الرواية اللهجة الصعيدية خلال الحوار.

وترى الدارسة أن هذه الرواية وإن كانت تعرض بحيادية وصدق شديدين، موقف أهل الجبل، لكنها تبدو في النهاية، وكأنها تدين ذلك الموقف الرافض للتمدن والحضارة.

أحداث رواية (الجبل) تدور في فضاء قرية صغيرة عند منحنى النيل اسمها “القرنة” في البر الغربي للأقصر، ثم تتشكل وفق مسار الأحداث

أماكن أخرى كثيرة؛ منها المفتوح ومنها المغلق. ولا شك، أن المكان يتشكل من جميع الدلالات الملازمة له، والتي تكون عادة مرتبطة بعصر من العصور ، إذ إن لكل عصر دلالاته ورموزه الخاصة والتي تتبعها تحليلات خاصة بذلك العصر وظروفه وثقافاته، فلكل عصر ثقافته ورؤيته الخاصة للعالم، وهو ما تسميه جوليا كريستيفا “أديولوجيم العصر، فالمكان الذي يتلون بالحالة الفكرية الثقافية أو النفسية للشخصيات المحيطة به، وعلاقاتها الاجتماعية، مكان له دلالة تفوق دوره المألوف.

وأول الأماكن التي واجهت الكاتب في رحلته إلى الأقصر “معبد الأقصر” يقول غانم : وفجأة راعني معبد ضخم، وممتد لمسافة طويلة.. الأعمدة الهائلة، والتماثيل الواقفة لملوك متوجين، وملوك جالسين، وكتل ضخمة، من الحجارة، متناثرة، كفتات خبز هائل الحجم تأكل منه الآلهة”

لقد انبهر الكاتب بذلك المكان الواسع الكبير ، فاتسعت معه روحه، ثم عادت للانكماش من جديد. فالمكان بهذه الهيئة مخيف، خاصة أن الأضواء خافتة صفراء وكأن أعمدة الإنارة مضاءة بغير نور ، كأنها مجرد لون أصفر وسط سواد الليل.

إن ارتباط سكان الجبل بالجبل “المكان” في الرواية هو ارتباط الفروع بالجذور ؛ فهم نشأوا في المكان فوجدوا آباءهم وأجدادهم، وكأنهم ورثوا المكان من عهد الفراعنة، فشكّل المكان في نفوسهم عالماً من الحقيقة وآخر من الخيال، فهم يحلمون كل يوم بالكنز ، بل الكنوز المدفونة، التي طالما وجدوها حققت لهم كل آمالهم ، وأراحتهم من متاعب الدنيا، وانتشلتهم من الفقر إلى الغنى، من سكنى الجبل إلى سكنى القصور، حتى وإن كان بعيداً عن الجبل. وهنا تبدو المفارقة الغريبة، إنهم لن يبقوا في الجبل المتمسكين به، بل سيتركونه.

يقول غانم في الرواية: تقول واحدة من النسوة ح نشتري بيت على الشط، وفدادين نزرعهم ونعيش عيشة الأشراف.

وتقول ثانية حناكل اللحم، ونلبس الحرير، وننسلوا عيال شداد. وتقول ثالثة : أخويا كيفه أروح معاه سيوط . أخدم على مرته . دلوقيت ييجي معاها ياخد نصيبه م الكنز . والمفارقة الأخرى أن الذين بنوا القرية النموذجية هم أهل الجبل أنفسهم.

وتقول الدراسة أن هذه المفارقة تكشف أمراً مهماً وهو شدة الفقر، وتحكم المال في النفس البشرية. فهم يعانون الفقر ، فلا عمل ولا مصدر رزق لهم إلا الجبل

فلما وجدوا فرصة العمل في القرية، التي لا يريدون النزول إليها، بل كانوا يحاربونها إلا أنهم نزلوا إلى العمل. كما أن من يجد كنزاً لا يبقى في الجبل، بل يذهب إلى المدينة ويبنى القصور ويشترى السيارة. وعلى ذلك فإن التمسك بالجبل ليس تمسكاً بالمكان بل هو تمسك بأسباب الحياة.

ومن مظاهر الحضارة في رواية الجبل الحفل الذي أقامه المهندس في افتتاح القرية يقول غانم : وقرر المهندس افتتاح القرية، وإقامة حفل كبير تحضره وتشرفه الأميرة، ويستقبلها أهل الجبل، ويشكرون لها زيارتها لهم، وفضلها، وفضل شقيقها الملك عليهم، ببناء القرية الجديدة لهم.

وفي صباح أحد الأيام، جاء المقاول كرسول من المهندس ليبلغ العمدة بنبأ الحفلة، ووافق العمدة على أن يتقابل أهل الجبل، مع الأميرة ويرحبون بها، وتساهل العمدة، ورضى أن يهبط مع رجاله إلى القرية النموذجية وألا يشترط . كما كان يريد في قرارة نفسه – أن تصعد الأميرة إليهم في جبلهم، وتزورهم في مساكنهم….. وجاء صباح يوم الاحتفال وقد أعد العمدة رجاله الذين سيرقصون بالعصي أمام الأميرة، واستعد مغني الجبل مع فرقته المكونة من عازف المزمار وعازف الأرغول والضارب على الدف .. وذهب بعض الرجال إلى القرية النموذجية، يستطلعون ما قام فيها من استعدادات، وإذا بهم يفاجئون بسيدات منتشرات في القرية، يلبسن ملابس بيضاء .. ومعهن قوة من رجال البوليس وأمرت السيدات رجال البوليس، بأن يقبضوا على القادمين من أهل الجبل، ويدخلوهم في حمام أعد لهم، حيث قاموا بغسلهم بالماء والصابون، كما تغسل الجياد. ثم أخرجوهم من الحمام وقد رموا ملابسهم وأعطوهم “جلاليب جديدة ذات لون واحد.. هو اللون الأبيض .. حتى أصبح الرجال، وكأنهم فرقة أخرى من فرق العساكر ترتدي الجلاليب.

الدلالات النفسية للمكان

يتصل الأدب والنقد الأدبي اتصالاً وثيقاً بعلم النفس، فالأديب في كل ما يصدر عنه من نشاط أدبي يستلهم تجاربه العقلية والنفسية، ولهذا فالأدب مرأة عقل الأديب ونفسه والناقد يستعين بحقائق نفسية ذات مصطلحات خاصة، في تفسير بعض مظاهر الأدب وعناصره من الحقائق النفسية، التي يسري أثرها في نسيج الإنتاج الأدبي ويستعين بها النقاد؛ في التفسير والحكم على العمل الأدبي.

وتقول الدراسة:  نريد الإشارة إلى الزمن الذاتي، الذي يلعب دوراً مهماً في عملية الفهم والوعي والإدراك الخاصة بفن الكتابة (السرديات). إن الحاضر مشحون بالماضي، كما أن الحاضر مشحون بتوقعات المستقبل، ولذا نجد أن الزمان لدى الإنسان في ديمومة واتصال واستمرار ، وقد تختلف ذات الكاتب مع ذات القارئ في العديد من المحطات، نظرًا للمسافة الزمنية الفاصلة بينهما، فيكون ذلك فرصة أمام القارئ ليدخل في النص، ويوجه الفهم والتأويل حسب واقع النص الراهن؛ فأفق الفهم لا يتحدد بما أراده المؤلف أو بما خطر على باله، ولا يتحدد أيضاً بأفق المتلقي الأصلي الذي وجه إليه (lelecteur original الخطاب آنذاك، ولا توجد أي مشروعية لما يسمى بالقارىٔ الأصلي لأن الإحالة إليه مثل الإحالة إلى المعنى الذي أراده المؤلف.

ومن الدلالات النفسية التي حملتها رواية الجبل ” الإحساس بالظلم ” فالمجتمع الذي يعيش فيه أهل الجبل، يكاد يكون معدماً من كل مظاهر الحياة الآدمية، فالحيوان يعيش مع الإنسان في مكان واحد، والجوع والحرمان يسيطر على أهل الجبل، في الوقت الذي تعيش فيه الأميرة مع أصدقائها في ترف وبذخ، فهي كل ليلة تسكر وترقص غير مبالية بشيء.

يقول ” كانت القرية النموذجية في حالة هستريا الأميرة سكرانة، وحولها خمسة من الشبان الأمريكان، ومعهم المهندس وبعض رجال الآثار، وسيدات الجمعيات النسائية، اللاتي أشرفن في الصباح على غسل الفلاحين بالماء والصابون، والباسهم الجلاليب البيضاء الجديدة .. “.

إن دراسة أبعاد المكان في رواية “الجبل” لفتحي غانم، تفتح آفاقاً عديدة للدراسة، مما يؤكد أهمية المكان في هذه الرواية.

 

وجوه أخرى لفتحى غانم 

قال الكاتب شعبان يوسف فى مقدمة كتابة “وجوه أخرى لفتحى غانم” كاشفاً بعضاً من مزاياه : عندما صدر كتاب “مذكرات ثقافة تحتضر” للناقد غالي شكري عام 1970 كان يتضمن حوارًا مثيرًا مع الكاتب الروائي الصحفي فتحي غانم، وبدأ غالي وصفه لغانم كما يلي: “في مخيلتي كان له وجهان، أحدهما لتلك الشخصية الهادئة التي تلوح لي كثيرًا في أسلوبه وتعبيراته وموضوعاته التي تكاد في همسها أن تصل إلى حدود المونولوج الداخلي، فلم أره يومًا في معركة حادة من معارك الفكر أو الأدب أو السياسة، حتى خلافاته مع الآخرين يكسوها هذا الهدوء الشفاف لا تصل إلى مستوى “الحوار” إلا في القليل النادر، فمعظم صراعاته – إن وُجدت – من طرف واحد لا يشتبك إلا مع كل ما هو عام ومجرد، اشتباكات أقرب ما تكون إلى لغة الاحتجاج المهذب، والتحفظ الوقور، وهي لغة تحيطه بسياج قوي سميج يحول بينه وبين التلاحم المباشر أو الاحتدام العنيف”.

فتحى غانم فى سطور 
 

أديب مصري وُلد بالقاهرة في 24 مارس 1924، لأسرة بسيطة، تخرج في كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام 1944، حيث عمل بالصحافة

تقلد محمد فتحي غانم العديد من الوظائف منها: رئيس تحرير صباح الخير من عام 1959 إلى عام 1966.
ـ رئيس مجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط ، عام 1966.
ـ رئيس تحرير جريدة الجمهورية ( 1966 وحتى 1971).
ـ رئيس تحرير روزاليوسف ( 1973 وحتى 1977). ووكيل نقابة الصحفيين. 

له العديد من المؤلفات منها:
الروايات؛ الجبل ـ من أين ـ الساخن والبارد ـ الرجل الذي فقد ظله ـ تلك الأيام ـ المطلقة ـ الغبي ـ زينب والعرش ـ الأفيال ـ قليل من الحب كثير من العنف ـ بنت من شبرا ـ ست الحسن والجمال.
مجموعات قصصية؛ تجربة حب ـ سور حديد.
ترجمة بعض القصص إلى لغات أوروبية متعددة.
ترجمة الرجل الذي فقد ظله إلى الإنجليزية.
ترجمة رواية الجبل إلى اللغة العبرية.
نال فتحي غانم العديد من الجوائز والأوسمة:
ـ جائزة الرواية العربية، بغداد، عام 1989.
ـ وسام العلوم والآداب، عام 1991.
ـ جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1994.
توفي عام 1999 عن خمسة وسبعين عاماً.

Exit mobile version