(عندما داهمت المباحث منزلنا أصابتهم خضة!!) حكايات إحسان

عجائب عبدالقدوس

فى مثل هذه الأيام من عام ١٩٨١.. يعنى من ٤٣ سنة بالتمام والكمال داهمت الشرطة منزلنا للقبض على العبدلله كاتب هذه السطور!
وعندما اقتحموا بيتنا أصابتهم «خضة» فقد فوجئوا بما لم يتوقعوه أبدا، واصبحوا «فى نصف هدومهم» بالتعبير الشهير وغاية فى الارتباك وهم ثلاث ضباط.. كل واحد منهم ما شاء الله طول وعرض!!
ومن حقك أن تسألني: ما الذى جرى؟ فهو موقف إستثنائى وضابط الشرطة يقوم عادة بواجبه بقوة دون أن يسوده الارتباك ويصبح فى نصف هدومه.. فما الذى جرى عندما اقتحم البوليس بيتكم؟؟
وأبدأ الموضوع من أوله، فالسادات رحمه الله ألقى القبض على من تجرأ وعارضه وذلك قبل وفاته بشهر واحد وبدأت حملة الإعتقالات فجر الخامس من سبتمبر من عام ١٩٨١ شملت مختلف الاتجاهات من الأحزاب المختلفة، وقوى اليمين واليسار والأقباط والقوى الإسلامية.
والمؤكد أن مصر فى تاريخها لم تشهد أبدا مثل هذه «التنويعة» من الاعتقالات، وبلغ عددهم عدة آلاف! وكنت واحد من ضمن العديد من الصحفيين والسياسيين الذين تم القبض عليهم فى هذا اليوم..
ملحوظة: على فكرة أنا من زمان قوى ثائر ومتمرد ضد كل الأوضاع الخاطئة فى بلادنا.
وأول مظاهرة شاركت فيها فى حياتى كانت عام ١٩٦٨ ضد الحكم الناصرى احتجاجا على الهزيمة.
وكنت فى سنواتى الأولى بالجامعة.
ونرجع لموضوعنا الأصلى.. وأقول إن «السادات» له إنجازات كبرى خاصة فى سنواته الأولى من حكمه وعلى رأسها بالطبع حرب أكتوبر المجيدة، لكن فى أواخر حكمه تحول إلى فرعون وأصدر العديد من القرارات الخاطئة فثار عليه الرأى العام وفقد شعبيته التى كان يتمتع بها خاصة بعد معركة العبور.
وكنت من بين الثائرين عليه فى كتاباتى رغم صداقته لوالدى.. واعطانى أبى رحمه الله حريتى فى الكتابة ضد صديقه القديم، وعندما يكلمه أحد فى ذلك يقول: ده رأيه وهو حر فيه.
ودفعت ثمن رأيى فجر الخامس من سبتمبر عام ١٩٨١.. ففى الواحدة والنصف فجرا فوجئ أهل المنزل برنين متواصل لا ينقطع على جرس الباب.. ودخل ضباط ثلاث يقتحمون منزلنا، لكنهم فوجئوا بوالدى رحمه الله فى سهرة بالصالون مع ضيوفه وكلهم من الشخصيات النافذة فى المجتمع من أهل السياسة والوزراء السابقين والفنانيين.. واصابتهم الدهشة من هذا المنظر الذى لم يألفوه من قبل أبدا.. وساد الضباط الثلاث ارتباك شديد، وبالتأكيد لم يتوقعوا أننى أقيم مع والدى بذات شقته فى عمارة الزمالك!! وكان ظنهم أننى أقيم فى هذا المكان وحدى..
وقال رئيسهم فى صوت خفيض: إحنا آسفين قوى بس إحنا عايزين الأستاذ محمد!!
وخللى بالك من كلمة أستاذ الذى أضافه إلى أسمى.. ولم يقل «محمد» حاف!!
وساد الصمت المكان قبل أن تنطلق ست الحبايب الجدعة والدتى رحمها الله لتعطيهم «وصلة» ردح لم يسمعوها من قبل أبدا.. قالت للضابط قائدهم: أتعلم الأدب.. البيوت لها حرمة.. عيب تدخلوها بهذه الطريقة! ومن ارسلك قليل الأدب زيك!!
ولم يرد الضابط فهناك جمع محترم من الشخصيات النافذة فى منزلنا وهو لا يريد أن يعمل فضيحة.
وكرر ما قاله من جديد: إحنا آسفين قوى.. بس إحنا عايزين الأستاذ محمد!! وكنت نائما وأستيقظت على الضجة، وأخيرًا جاءهم الأستاذ محمد.. اللى هو حضرتى!!
وقال الضابط وهو يستأذن والدتي: معلش يافندم.. إحنا عايزين نعمل «طلة» على حجرة الأستاذ محمد (يعنى تفتيش) وهاجت وماجت سيدتى امى من جديد، لكننى قلت للضباط أتفضلوا.. فدخلوا ولم يمكثوا فيها سوى ثوان.. وكان من الواضح أنهم لا يريدون البقاء فى المنزل أكثر من ذلك بسبب سيل الشتائم التى يتلقونها من أغلى الناس!!
وخرجت معهم وكانت مفاجأة فهناك مخبرين منتشرين فى كل مكان من العمارة وقوة بوليسية بالسلاح واقفة عند مدخلها.. وكأننى مجرم خطير مع اننى مسالم بطبعى وراجل غلبان!!
ومن هذا الموقف تستطيع أن تكتشف شخصية أمى.. ست جدعة قوى رحمها الله فالمنزل كما تقول الحكمة الشهيرة مملكة المرأة ورجال الشرطة اقتحموا منزلها للقبض على أبنها.. وكان من الطبيعى أن يكون رد فعلها عنيفًا!
إما أبى الحبيب فقد ظل مع ضيوفه من كبار القوم صامتين لم ينطقوا بكلمة وكأنهم يشاهدون فيلم لم يسبق رأوه من قبل أبدا، وقال لى الضابط بعد مغادرة منزلنا.. أمك دى ست صعبة قوى!!
ولم أرد وقلت فى نفسى.. بل ست جدعة جدًا بشهادة كل من عرفها.