بين السطور
كأننى أراه الآن يحدثنى ويلقى إلينا بتعليماته بطريقته الهادئة، فعلى الرغم أننى تتلمذت على يديه لمدة عامين و«شوية»، إلا أننى أحفظ عنه حكم كثيرة وملاحظاته الدقيقة التى كان يبديها بهدوءه الدائم، فقد كان له بصمات فى تعليم كل من عمل معه سواء بالشكل المباشر أو من خلال رؤساء الأقسام، فهو لا يغلق باب مكتبه نهائى، إنه الأستاذ الصحفى الكبير مصطفى شردىن فهو عندما تدخل مكتبه لا تجد من يسألك فى إيه؟ أو عنده اجتماع، فقد كنا أسرة واحدة نتجمع ساعات وسرعان ما ينطلق كل منا إلى حاله بحثا عن الأخبار ومشاكل الناس لنشرها وعرضها على المسئولين لإيجاد حلول لهم، وبحثا عن جلب الأخبار والمتابعات، فلم يكن تسلل النت إلى الصحافة ليقضى عليها مثل الأن أو يتناقل البعض أخباره عن مواقع أو غير ذلك، فلم يكن هناك صحافة «إنقل من البعض وإجرى»، لكنه علمنا الصحافة الحقيقية فعلا أو الصحافة الحقة التى لا ميل فيها ولا هوى، كما علمنا أن نحافظ على مصادرنا وأن تكون علاقتنا بهم قوية، فبلأمس القريب كانت ذكرى رحيل فارس الكلمة والرأى الذى خاض معارك ضارية من أجل الوطن وانحياذه الدائم للفقراء، وكان دورى أن أجرى حوارات فنية مع أساطير الفن أو حوارات سياسية، فتلك الحوارات كانت سببا فى دخولى الجريدة أو أجرى تحقيقات تخص المشاكل الحياتية للناس وأعطيها للأستاذ محمود السنجرى أنذاك، وفى ذات يوم من بداية عام 1988 أخبرنى الأستاذ مصطفى شردى أمام الأستاذين جمال بدوى كان مدير التحرير ومساعده أستاذ سعيد عبد الخالق، بأننى أعمل بالحوادث، وهنا كانت الطامة الكبرى فأمام كاريزمته أجبت، ياريس أنا لم أدخل قسم شرطة إلا لاستخراج البطاقة الشخصية فقط ولا أستطيع أن أرى حادثة، فانا أجرى حوارات بصحف عربية ومحلية مع الفنانين والسياسين ومنهم الباشا، فقال لى عارف وأنا ماعنديش غير الحوادث، ثم وجه كلامه للأستاذ سعيد: خليها تحت إشرافك أنت وعباس بيه، وهنا أسقط فى يدى فأنا اقف بين أساطين الصحافة ولا أملك رفاهية الاختيار، فظللت أبكى حتى تم توزيعى من خلال رئيس الديسك المركزى وأعطانى مصادر، وفى اليوم التانى وقع حادث تصادم كبير وأنا ذاهبة للاجتماع الصباحى وكان هناك ضحايا على الأرض فتحديت نفسى ونزعت الخوف من قلبى وأعصابى ونزلت من الميكروباص وهات يا تدوين أسماء المصابين ووصفت الحادث فى بضعة وريقات الدشت التى كانت معى ولم يكن آنذاك بحوزتى أية تليفونات ولم يكن المحمول أكتشف بعد، وأثناء دخولى الجريدة ومعى صيدى الثمين هذا أبلغنى مسؤل H R أننى اليوم غياب ومحولة للتحقيق فلم أهتم سوى بما حصلت عليه من تغطية حادث راح ضحيته وقتها 21 متوفى بالإضافة لأعداد المصابين وكتبته وكنت أول مرة أكتب حادث أو أغطيه لأفاجأ فى اليوم التالى بتعليق ورقة على اللوحة بحصولى على مكافأة مالية قدرها عشرون جنيها وكانت قيمتها كبيرة جدا فى ذلك الوقت، ثم ذهب المصور مجدى حنا الجهبذ لتصوير الحادث الذى سود الصفحة الاولى والثالثة بمفردى، وبعد ذلك تغيب الزميل حمدى شفيق عن تغطية قضية ثورة مصر التى كانت تضم ابن رئيس سابق وأخرين لأقوم بتغطية هذه القضية حتى الحكم، ثم قمت بتغطية جميع الحوادث الإرهابية جميعها ومن بينها قضية مفتى الجماعة الاسلامية عمر عبدالرحمن وقضية اغتيال المحجوب ومرافقية وحوادث قتل السائحين على مستوى مصر لتتهافت على الصحف ووكالتين أنباء لكبريات الدول الأوروبية، وهنا ينتهى هذا المشهد بأن أصاب استاذنا مصطفى شردى وكنت أنا على خطاء، وأصبحت طبقا لكلام أساتذتى وزملائى نجمة الحوادث، حقا كما قال العلى القدير فى كتابه «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»، لقد نجح أستاذنا مصطفى شردى ومعه الكوكبة الصحفية التى شرفت أن أكون أنا من بين هذه الكوكبة فى أن تكون أداة رقابية على كل متسكع أو محتال أومن يستحل مال الوطن والمواطنيين فتبنت الجريدة الكثيرمن قضايا الفساد، حتى أصبح يخشاها ويهابها الكثير من المسئولين وكادت أن تتلاشى أمامها كبريات الصحف الحكومية آنذاك، لقد صنع أجيال تتباهى بها الجماعة الصحفية للأن فيقول الزملاء بالصحف «دول من مدرسة مصطفى شردى» وهى جملة تعنى أننا تعلمنا الصحافة على أصولها و تعبنا وشقينا فى بلاط صاحبة الجلالة أيام صولجانها الحقيقى، أما المشهد الثانى والأخير فكان عندما استيقظنا اليوم الأول من يوليو عام 1989 على سحائب كثيفة قاتمة خيمت علينا وعلى محبيه بالحزن لتتساقط دموعنا عليه فى ميدان التحرير والشوارع المؤدية لجامع عمر مكرم وطوال رحلتنا خلف نعشه حتى مثواه الأخير فى مسقط رأسه المدينة الباسلة بورسعيد التى خرجت تودعه أيضا حتى مقابر الأسرة بسرادق على طول الطريق رحم الله الاستاذ.