الجمعة 29 نوفمبر 2024 | 04:45 صباحاً
صورة شخصية عادية، منشورة على “السوشيال ميديا”، يمكن أن تكون لأي أحد، ولكنها لم تكن لتكون أبداً لصديقي إبراهيم الدراوي، الصحفي الوحيد الذي تشارك مع الرئيس المتهم محمد مرسي بتهمة التخابر مع جهة أجنبية، الصورة كانت لزميلي وهو يتعلق بحديد الضريح الذي أعرفه جيداً.. نعم، هو ضريح ستنا فاطمة النبوية، ابنة سيد الشهداء مولانا الحسين.. ثم صمت طويل والعشرات من علامات الاستفهام انتهت باتصال تليفوني طويل بدأ بسؤال واحد ووحيد: “إيه اللي جابك عندنا؟” والإجابة كانت قصة طويلة أشبه بما نعرفه عن كرامات أولياء الله الصالحين، ولكن الولاية هنا والكرامة كانت لسيدة قلبي أنا، وهي ستنا فاطمة النبوية.
المكالمة الهاتفية الطويلة كانت عنواناً قصيراً لنقطة تحول تاريخية في حياة صديقي، التي كانت الدولة المصرية بأثرها وقتها تضع اسمه على قوائم الإرهاب، بإجراءاتها المعقدة من المنع من السفر، والتحفظ على أموال الزميل، وغيرها من المحظورات التي تنتهي إلى مصطلح حزين هو “المواطنة المنقوصة”.
الحكاية مع صديقي إبراهيم بدأت منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمان، منذ أن كنا مجرد صحفيين صغار نلهو في الشوارع الخلفية لبلاط صاحبة الجلالة.. جمعتنا الأصول الريفية لقرى محافظة الشرقية، كان إبراهيم، ككل أبناء جيلنا في تلك الأيام، نحاول البحث عن مساحة تحت شمس الصحافة الحارقة، وسرعان ما جرفتنا السياسة وشوارعها المتسخة، لتصطدم بها أقلامنا البريئة الساذجة، فتحفر في نفوسنا مساحات من العناد.. تلك المساحات قذفت بصديقي وقتها للملف الساخن دوماً، فسخر قلمه وقلبه ليكونا مع الملف الفلسطيني، بكل ما به من حسابات معقدة، ورحت أنا أحارب طواحين الهواء في أحزاب الوفد والجيل، كصحفي شاب يبحث عن فرصة لقلمه للنجاة.
وبطبيعة الحال، كان الصدام حتمياً مع تنظيم الإخوان الإرهابي، وهو نفس التنظيم الذي كان إبراهيم يتوغل فيه صحفياً ولكن داخل الأراضي الفلسطينية، ففتحت حركة “حماس” أبوابها للصحفي المصري الموهوب إبراهيم الدراوي، الذي تعامل وقتها “ببراجماتية” شديدة، ربما للبحث لنفسه عن مساحة للوجود المهني.. وانحرف الشاب الأزهري إلى مجاملة الإخوان داخلياً، على الأقل من باب عدم خسارة مصادره في الجناح العسكري للتنظيم في فلسطين.
ولكني كنت على يقين أن إبراهيم لم ولن يكن إخوانياً في أي لحظة من تاريخه، وستخبرنا سنوات السجن عن ما فعله الإخوان أنفسهم في صديقي الذي ظلمه الجميع.
كانت تقاطعاتنا كثيرة للغاية، فما بين صحفي كفر بالسياسة والسياسيين في بلده، وآخر اختار أن يلعب صحافة من باب الحفاظ على مصادر معلوماته، لم يتسخ ثوب صداقتنا ولو لمرة واحدة.. ولكن دراما السياسة في مصر كانت كفيلة أن تحفر فينا جروحاً غائرة.
فما بين ثورتي يناير و30 يونيو، ورغم تقاطعاتنا السياسية، كان خبر إلقاء القبض على صديقي الغالي بالنسبة لي خبراً مفجعاً، خاصة والتهمة التي وجهت لإبراهيم كانت التخابر مع حماس، وكنت أعلم علم اليقين أن صديقي لم ولن يكن في أي لحظة من تاريخه الإنساني أو المهني غير مصري وطني، دون شك ودون نقاش.. ثم، بعد سبع سنوات تقريباً، وبالتحديد يوم 11 سبتمبر 2019، يُسدل الستار على الجناية رقم 2925 ببراءة صديقي الغالي من تهمة التخابر والانتماء إلى جماعة إرهابية، لتبدأ فصول رواية جديدة من حياة صديقي الصحفي غير الإرهابي إبراهيم الدراوي.
وكعادتنا أنا وإبراهيم، كانت الحياة تتآمر على علاقتنا بشكل عجيب.. فحينما اتفقنا لأول مرة سياسياً، اختلفنا نقابياً وبشدة في قضية أخرى كان عنوانها اسم الزميل “ضياء رشوان”، الذي كنت أقف على يساره في كل مرة ترشح فيها نقيباً للصحفيين.. ولكن هذه المرة بمزيد من العنف مني تجاه زميلي العزيز الأستاذ ضياء رشوان، الذي كان نقيباً للصحفيين وقتها!
فبينما كان إبراهيم يحاول رد الجميل لنقيب الصحفيين الذي وقف بجانبه طيلة سنوات السجن وحتى بعد خروجه تائهاً يتلمس طرق العودة مرة أخرى، كنت أنا أخوض معركة نقابية شرسة ضد نقيب الصحفيين، الذي قيل لي وقتها إنه يقف حجر عثرة في طريق قيد زملائي وجريدتي التي أترأس تحريرها في نقابة الصحفيين.. وأعترف اليوم أن بعض المسؤولين في الدولة قاموا بتضليلي في هذا الملف!
وظل إبراهيم يدافع عن النقيب وظل وليد يناصبه العداء، وظل الشقيقان أصدقاء خلف الكواليس وأمامها دون أدنى اعتبار لأي حسابات نقابية.. فكان الامتحان الثاني لهذه العلاقة، الذي أعتقد أننا اجتزناه بنجاح باهر.
الدراوي الذي بدأ يلمع نجمه في عالم التحليل السياسي كأحد أهم الصحفيين المعنيين بالملف الفلسطيني في مصر، ويعرف القاصي والداني أنه اتخذ جانب الدولة المصرية في كل القضايا، حتى على مستوى المرشحين على منصب النقيب في انتخابات الصحفيين، كان متسقاً مع ما يعتقد أنه الصواب.. ولكن ظلت تهمة “الإخوان” تلاحقه في كل مكان، ولم يعد إبراهيم يدافع عن نفسه، حتى حينما كنت أخبره أن يروي للناس ماذا فعل الإخوان طيلة السنوات السبع التي قضاها خلف الأسوار، كان يتأفف من تلك الأيام بكل ما تركته في روحه من غصة، وهي أحد أسبابي لكتابة هذه السطور، فخلف القضبان لا مساحات للزيف أو المواربة.
لقد تم اضطهاد زميلي من كل قيادات الجماعة الإرهابية حتى وصلت الأمور في بعض الأحيان للاشتباك معهم لفظياً وجسدياً، ولا يعلم إبراهيم ولا أنا لماذا كان الإخوان يكرهونه إلى هذا الحد، وهو المسجون معهم بتهمة الانتماء لهم وبتهمة لم يرتقِ إليها غير الرئيس الإخواني نفسه، وهي تهمة التخابر!
جمعتنا رحلات الصفاء الروحي داخل أضرحة آل البيت النبوي، دون هدف غير المحبة، والمحبة فقط.. وحتى هذه المحبة دفعنا لها أثماناً من الشائعات التي لم نلتفت إليها أبداً، حتى تقاطعت الدولة معنا مرة أخرى متمثلة في القرار القضائي الأكثر جدلاً في عامنا الذي لم ينتهِ هذا، برفع 716 اسماً من على قوائم الإرهاب، كان صديقي الصحفي غير الإرهابي إبراهيم الدراوي يحمل رقم 4 في الكشف الذي ضم هذه الأسماء!
نعم، كان زميلي ينتظر قراراً بالسماح له بالسفر، فقد كانت منتهى أحلامه أن يذهب لزيارة الحرم المكي، وكم كنت ألمح دموع الإلحاح في الدعاء عند ضريح مولانا الحسين، وهو يطلب أن تتحقق هذه الأمنية البسيطة، وهو يدعو أن يُرفع اسمه من قوائم التحفظ على الأموال، فقط لكي يستطيع أن يسير بسيارته في هدوء، دون أن يستوقفه ضابط شرطة يسأله عن عبارة “حظر نائب عام” الممهور بها رخصة سيارته، وهذا أمر لو تعلمون في شوارع مصر عظيم!
نعم، جاء القرار وهو يحمل عنوان رفع اسمه من قوائم الإرهاب، تحققت الدعوة التي طالما ألح بها على الله.. ولكن، هل كان إبراهيم الدراوي إرهابياً؟
وبكل أدوات النفي والجزم واليقين في ضميري، لم يكن إبراهيم الدراوي غير صحفي مجتهد زيادة عن اللازم.. يمارس مهنيته ببراءة أبناء محافظة الشرقية التي ننتمي إليها.. ولطالما تندرت عليه قائلاً: لو كنت صحفي “منوفي” كنت هتكون وزير الإعلام، لكن حظك إنك شرقاوي.
صداقتنا مستمرة، ولا زال للحكاية فصول قادمة.. سنلتقي قريباً في شهر أبريل القادم، مع حلقة جديدة لرحلة الدراوي، ولكن هذه المرة من على منصة الترشح لعضوية مجلس نقابة الصحفيين، فقد اعتزم صديقي خوض هذه المعركة.. وكعادتي، متورط معه حتى النخاع في كل حكاياته.. ولتكن هذه المرة دون تقاطعات، ولكن مع توازٍ كامل في هذه المعركة.. ببساطة لأني مقتنع بشكل عميق بصديقي، وبحقه في الحصول على هذا المقعد.. ليس لأنني أحبه، ولكن لأنه أهل لهذه النسخة من الأعضاء بمجلس نقابة الصحفيين، ولأن إبراهيم نفسه يحمل نسخة جديدة من نفسه، ففي غفلة من الجميع ولدت نسخة جديدة من الصحفيين، ربما كشفت عنهم الأيام القادة فى بلاط صاحبة الجلالة.